معاناة نساء غزة.. وجوة الحرب قسوة وانتهاك حقوقهن الأساسية

منظمة انتصاف – عربي ودولي

منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، يشهَد القطاع كارثة إنسانية غير مسبوقة. البنى التحتية الأساسية دُمّرت، الخدمات الصحية في حالة انهيار شبه كامل، المرافق التعليمية توقفت أو أُصيبت بأضرار كبيرة، ونقص حاد في المأوى والغذاء والماء. الحصار المستمرّ، القصف الجوي والمدفعي، وارتفاع عدد الضحايا، كل ذلك خلّف معاناة جماعية لا يمكن تجاهلها.
وفي خضم هذه الكارثة، برزت معاناة النساء كأحد أكثر وجوه الحرب قسوة وإيلامًا، إذ يواجهن فقدان أحبائهن، نقص الرعاية الصحية، وانتهاك حقوقهن الأساسية.
وفي تقرير احصائي شامل لمركز معلومات فلسطين (مُعطى)، بعنوان “عامان على الجرائم بحق المرأة في قطاع غزة” بمناسبة مرور عامين على الابادة الجماعية، كشف التقرير أن العدوان الإسرائيلي أودى بحياة أكثر من 12,500 امرأة، بينهن أكثر من 9,000 أم شهيدة، فيما تم تسجيل 12,000 حالة إجهاض بين النساء الحوامل بسبب الرعب، أو انعدام الرعاية الصحية، أو القصف المباشر.
وذكر المركز أن هناك نحو 21,193 أرملة فقدن أزواجهن خلال جريمة الإبادة، بينما تواجه أكثر من 107 آلاف امرأة حامل أو مرضعة خطرًا بالغًا بسبب غياب الرعاية الطبية وانهيار المنظومة الصحية في القطاع.
ولادة تحت القصف، وإلى جانب الخطر المباشر من القصف، هناك مخاطر غير مرئية لكنها قاتلة: نقص الرعاية الصحية التوليدية، عمليات الولادة في ظروف طوارئ، نقص في الأدوية والمستلزمات الأساسية مثل الأدوية المضادة للعدوى، وحدات العناية المركزة والخُدّج.
كثير من النساء الحوامل يواجِهن صعوبة حتى في الوصول إلى مرافق الولادة الآمنة، مما يزيد من احتمالية المضاعفات أو وفاة الأم أو الجنين.
في حيّ الشجاعية، وسط حصار الدبابات الإسرائيلية، اضطرت الحاجة زهية عياد (65 عامًا) لتوليد قريبتها “إلهام” بعد أن تعذر وصول سيارات الإسعاف. استعانت بخبرات والدتها الراحلة التي كانت “داية” قديمة، واستخدمت أدوات منزلية بدائية، بإرشاد طبيب عبر الهاتف. وبالرغم من الخطر والخوف، خرجت المولودة “سما” إلى الحياة بسلام. تقول زهية: “اللي خلّف ما مات، يمّا.”
أما أم قصي نصر فبعد سنوات من الانتظار، أنجبت طفلتها وسط حصار خانق ونقص تام في مستلزمات الأطفال. ومع نفاد الحفاظات من الأسواق، استعانت بوالدتها التي أعادت إحياء طريقة الجدّات في صنع “حفاضات قماشية” من الأوشحة القديمة.
لكن هذا الحل البدائي سبّب للطفلة التهابات مؤلمة، لتقول الأمّ بحسرة: “رجعونا لأيام زمان.. حتى أبسط حقوق الطفل صارت حلم.”
وحول ذلك، قال المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ، جيمس إلدر، في مؤتمر صحفي الاسبوع الماضي، إن الأوضاع في قطاع غزة، الذي يئن تحت وطأة الحصار والقصف الإسرائيلي، لم تكن قط بهذا السوء بالنسبة للأمهات والمواليد الجدد..لافتا إلى أن إسرائيل أمرت بإخلاء نحو 200 ألف شخص إضافي ضمن مخططها الاحتلالي لمدينة غزة.
وأشار إلى أن أحد مستشفيات غزة، التي زارها، كانت تستقبل 60 إلى 80 طفلا بشكل يومي، بسبب سوء التغذية وأمراض أخرى، موضحا أن الكيان الصهيوني يطالب سكان مدينة غزة بالانتقال باتجاه الجنوب، بزعم أنها “مناطق آمنة مزعومة”.
وأردف متحدث اليونيسيف: “الوضع بالنسبة للأمهات والمواليد في غزة لم يكن أبدا بهذا السوء، فممرات مستشفى ناصر، باتت مكتظة بالنساء اللواتي وضعن مواليدهن حديثا”، مشيرا. إلى أن النساء في غزة يتعرضن للإجهاض بسبب اضطرارهن للسفر من شمال القطاع إلى جنوبه.
وتحذّر تقارير صادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان من انهيار خدمات الصحة الإنجابية في غزة، مع تزايد الولادات عالية الخطورة وارتفاع وفيات الأمهات، خصوصا في مراكز الإيواء بخان يونس.
الممرضة العاملة في أحد مستشفيات غزة تصف المشهد بقولها “نساء يلدن دون إشراف طبي كافٍ، وأحيانا من دون أي غذاء مناسب”، مضيفة أن الفرق الطبية تعتمد على إسعافات أولية بدائية بعد إغلاق المرافق المتقدمة، مما يضاعف مخاطر النزيف والعدوى، أما الأمهات اللائي فقدن القدرة على إرضاع أطفالهن بسبب الجوع، فيواجهن معضلة يومية: إما شراء حليب أطفال نادر بأسعار مضاعفة، أو الاكتفاء بالماء والسكر.
وقد وثّقت تقارير صادرة عن “أوتشا” و”أكشن أغينست هنغر” هذه الظروف، محذرة من جيل مهدد بسوء تغذية حاد قد يخلّف آثارا صحية سلبية دائمة.
المرض والحصار في آنٍ واحد
من جانب آخر، أكدَّت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، أن آلاف النساء محرومات، للعام الثاني على التوالي، من الكشف المبكر عن سرطان الثدي وعلاجه، نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي وتدمير مراكز الرعاية الصحية.
وأوضحت الوزارة في بيان لها، أن الحرب والحصار منعا إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة، مما فاقم معاناة المصابات بالسرطان وعرقل حصولهن على العلاج الإشعاعي أو السفر لتلقيه في الخارج، مضيفة أن تدهور الوضع الصحي وسوء التغذية ترك آثارًا كارثية على النساء، خصوصًا الحوامل والمريضات، في ظل تواصل استهداف المستشفيات ومنع إجلاء الحالات الحرجة.
نساء غزة عانَينَ من حرب ليست من اختيارهن، لكنهنّ يدفعن الثمن الأكبر مرارًا وتكرارًا على مستوى الفقد، المرض، تشريد، حرمان من الحقوق الأساسية، وانتهاك للكرامة.
جدار الصمود
حكايات نساء غزة، (مصدر القصص وسائل إعلام فلسطينية)، لن تمكنا من الإحاطة بحجم الألم الذي يعشنه. فكل قصة تحمل بين طياتها فصولاً من الفقد والصبر والمقاومة، وكل وجه في غزة يخفي وراءه مأساة تفوق الوصف، وحكايةً لا يكفيها الكلام.
تجسد قصة لميس ديب، 31 عاماً، معاناة نساء غزة في ظل الحرب المستمرة، إذ فقدت زوجها ووالدها جراء غارة إسرائيلية، ونزحت 11 مرة بحثاً عن الأمان. وتقيم لميس اليوم في خيمة مع طفليها وسط ظروف إنسانية قاسية، وتعبر عن أملها بوقف الحرب والعودة إلى بيتها المهدّم قائلة: “نريد قليلاً من الأمن والسلام فقط”.
لن تكفي الكلمات لوصف حجم ما يعانينه من وجعٍ يومي لا يتوقف. فخلف كل وجه امرأة فقدت زوجها أو طفلها، وأخرى نزحت مرات لا تُحصى، وثالثة تصارع الجوع والخوف والبرد لتُبقي أبناءها أحياء.
تعيش نساء غزة اليوم واقعًا أشبه بـ”عصر ما قبل الكهرباء”، “حيث عدن إلى الطهي على الحطب، وخَبز الطين، وصناعة أدوات المعيشة يدويًا. ورغم أنهن فقدن الأمان والبيوت، إلا أنهن لم يفقدن القدرة على التكيّف. تقول إحدى النساء: “الجدّات علمونا كيف نعيش بأبسط شيء.. والحرب أجبرتنا نرجع نتعلم من جديد””.
الألم المتجدد
بعد عامين على الصورة التي أبكت العالم، ما زالت الفلسطينية إيناس أبو معمر (38 عامًا) تواجه حربًا لا تنتهي في قطاع غزة، حيث تعيش فصولًا متكررة من الفقد والمعاناة.
إيناس، التي ظهرت في أكتوبر 2023 وهي تحتضن جثمان الطفلة “سالي” في مشرحة مستشفى ناصر بخان يونس، فقدت معظم أفراد عائلتها في الغارات الجوية، بينهم والدها وشقيقها والد سالي.
تقول إيناس بصوت يغمره الألم: “الحرب دمّرت كل شيء.. بيوتنا، عائلتنا، وحتى قدرتنا على النسيان.”
وتقيم اليوم في مخيم مزدحم قرب شاطئ غزة وسط ظروف قاسية ونقص حاد في الغذاء والماء، بينما تحاول رعاية ابن شقيقها اليتيم أحمد الذي فقد والديه وجدّيه وشقيقتيه في القصف.
ابتكارات نسوية وسط أزمات متتالية وانهيار الخدمات الأساسية في قطاع غزة، تحولت النساء إلى صمام أمان لأسرهن ومجتمعاتهن، مبتكرات شبكات محلية لتوزيع الغذاء والمساعدات الإنسانية وحماية الأطفال من المجاعة.
تروي الشابة إيمان علي: “آخر مرة تناولنا وجبة كاملة كانت خلال هدنة مؤقتة قبل أربعة أشهر… منذ ذلك الحين نعيش على بقايا خبز أو قليل من المعكرونة”.
ومع ذلك، تعمل إيمان كمنسقة مجتمعية لتوزيع الحصص الغذائية في حيها، بينما ابتكرت ناشطات أخريات وسائل لتدبير ما توفر من طعام لضمان وجبة يومية للأطفال.
شجاعة النساء اللاتي يواصلن الحضور في الميدان له حكاية أخرى؛ فالكثير منهن يستمرِرْن في أداء عملهن رغم إصابة زميلات أو فقدان أقارب، مدفوعات بإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الأطفال والنساء المراضع داخل المخيمات.
وتصف الصحفية الميدانية هالة لحظة وصولها مع زميلاتها إلى مركز توزيع أغذية بالقول “اضطررنا للزحف بين الركام حينما كانت طلقات القنص تسقط على مقربة منا”.
أما المتطوعة منى دلول، فأوضحت أنها أُصيبت بشظية في ساقها أثناء محاولتها إنقاذ أم وطفلها من موقع قصف، لكنها عادت إلى عملها بعد يومين فقط، مؤكدة “الخوف لا يوقفنا”.
تتشابه الحكايات في الألم، لكن لكل واحدة منهن بصمتها الخاصة، ودمعتها التي لم تجد وقتًا لتسقط…في غزة، تصحو النساء على صوت القصف وينمنَ على أملٍ واهٍ بأن الغد قد يحمل سلامًا، ومع ذلك يواصلن الحياة بصبرٍ يليق بالعظماء، وكأنهن جدار الصمود الأخير في مدينةٍ أنهكها الحصار والدمار

قد يعجبك ايضا